أزمة البحث العلمي
كانت وفاة الدكتور أحمد زويل أحد تلك الأمثلة التي أثارت الحديث عن البحث العلمي وأهميته وجدواه وتكاليفه، وغيرها من النقاط التي قُتِلت بحثًا. لكن بعيدًا عن الحدث نفسه، فلنتحدث عن أزمة البحث العلمي في مصر بشكل عام: البحث العلمي مجال صعب ومعقد ويحتاج إلى وقت طويل وإرادة وأموال وحرية في الأداء والتقييم، وللأسف في مصر، باستثناء الوقت، نحن نفتقر تمامًا إلى بقية العناصر. فالبحث العلمي لا يمكن له أن يقوم من دون (على الأقل) 50% دعمًا مباشرًا من الحكومة، وهذا غير متوفر، كما أن "ثقافة التبرعات" السائدة لا يمكن لها أن تقيم بحثًا علميًّا مستدامًا، ويأتي باقي الدعم من المنح المقدمة (أيضًا من مكان حكومي)، ومن الشركات الخاصة المهتمة بالبحث، أو من التعاون الدولي.
وفي الحقيقة، يتوفر في مصر بعض مقومات قيام قاعدة للبحث العلمي، فمثلًا تتوفر تقريبًا كل الأجهزة الحديثة التي يمكن بها إنتاج بحوث جيدة، لكنها موزعة بشكل غريب ولا يعلم بقية الباحثين عنها إلا بالصدفة، ولا تجري صيانتها. وفي الغالب فإن الافتقار إلى الرؤية لدى البعض يعطل هذه الأجهزة بعد فترة، فتصبح كأنها غير موجودة.
كما توجد أجهزة مؤسسية تابعة لوزارة ما ذات صلة بالبحث العلمي أو لأكاديمية البحث العلمي، يمكن لها أن تصدر قرارات وتتابعها، إلا أنها –للأسف- تتميز بالبطء الشديد وعدم الحِرفية في التعامل، ولا تقوم بدورها في متابعة ما تموله من مشروعات، بل تكتفي بتقارير شكلية، وتتحجج بالمشاكل الإدارية ونقص المال ونقص العاملين. هناك أيضًا أكاديميون وباحثون أقاموا مشروعات بحثية مع شركاء في الغرب، وحصلوا من خلال ذلك على دعم مناسب. إذًا هناك بالفعل ما يمكن أن يوجِد تلك القاعدة العلمية المطلوبة ويقويها، إلا أن التشتت الشديد الذي يتميز به الكثير من العاملين في المجال وعدم وجود إدارة جيدة لتلك الموارد يهدم تلك القاعده تمامًا.
ولكي يمكننا بناء تلك القاعدة نحتاج أولاً إلى نوع من المركزية لتجميع كل تلك الأدوات باهظة الثمن، وضم معامل القياسات المتفرقة كلها تحت منظومة واحدة، وتعريف الجميع بها من خلال موقع إلكتروني ونشرات دورية لوفائها بالغرض، وفي نفس الوقت تشجيع المعامل الصغيرة للتعامل مع تلك المعامل المركزية من خلال وضع برامج صارمة لإنتاج عدد معين من البحوث في وقت محدد في اتجاهات معينة. هذا ما فعلته البرازيل لتنهض بالبحث العلمي في وقت قياسي.
كما يجب أن تُدار تلك المعامل المركزية بشكل دقيق، لا من خلال أساتذة في الجامعة أو مراكز البحوث، بل من خلال فنيين يتم الإنفاق على تدريبهم تدريبًا عاليًا ومُتقَنًا، سواء في الخارج أو باستقدام خبراء، فالفني هو مَن يجب أن يتم الاهتمام بتدريبه على تشغيل وصيانة الأجهزة العلمية الدقيقة، وهو مَن يجب أن يُعلِّم الباحثين استخدام الآلات أو إجراء بعض القياسات.
وهذا يأخذنا بالطبع للجانب السيئ المُتوارَث، وهو النظرة الدونية من قِبل الباحث أو الأكاديمي للفني، وهي من المشكلات الاجتماعية التي أصبحت تراثًا لا يؤدي إلا إلى الفشل. وأتذكر هنا عندما أعلن الدكتور <مجدي يعقوب> في بداية إنشاء مركز القلب في أسوان عن حاجته إلى فنيين من خريجي كلية العلوم، فثار عليه نقيب العلميبن ورفع عليه قضية لأنه اعتبرها إهانة، ولم يدرك سيادته في ذلك الوقت أن الفني في معامل البحوث في الخارج لا يقل قدرًا عن الباحث، وإذا أنجز شيئًا يضيف للبحث يوضع اسمه عليه إلى جانب مؤلفيه من الباحثين والأكاديميين، هذا طبعًا غير الجانب الإنساني الذي يُفترض أن يساوي بين الجميع، إلا أن موروثاتنا البالية ما زالت تجتث مبادئ المساواة من جذورها.
العلاقة مع القطاع الخاص
حديثنا عن توفر المال ومركزية المعامل وحرية الباحثين والفنيين ليس كافيًا على الإطلاق لإيجاد حلول للمشكلة، لأن هناك مشكلات أكبر يجب أن تُحل، فمن أهم أدوات أستمرارية البحث العلمي وازدهاره، توفر القاعدة الصناعية والشركات المنتجة التي تهتم بأن يكون لها وحدات بحثية خاصة، تمول البحث الخاص بمجال إنتاجها وتدعم باحثيه، وربما تساند منهم مَن يريد أن ينضم إليها بعد ذلك، أو تمول بحثه مقابل أن يعمل لديها إذا وجدت أنه سيسهم في زيادة نجاحاتها. فالعلم لا ينمو هكذا وحده من غير وجود مَن يحفزه ويستعمل نتائجه.
وفي أي مكان علمي ناجح، هناك دائمًا نوعان من المشاريع التي تعمل بالتوازي، المشاريع قصيرة الأجل التي يجب أن تُستخدم نتائجها في خلال ثلاث سنوات إلى خمس، وهذه غالبًا يمكن تمويلها من جهات صناعية تبحث عن حلول، ومشاريع طويلة الأجل تقوم على دراسة الأساسيات التي يمكن أن تؤدي إلى نظريات جديدة في خلال عشرة أعوام أو خمسة عشر عامًا مثلاً. ومن دون وجود هذين النوعين من المشاريع لا يمكن أن تثبت الأماكن البحثية أحقيتها في الاستمرار. وكما نعرف جميعًا، تلك القاعدة الصناعية وفكرة المغامرة بالمال غير موجودة في مصر على أي نطاق، ولن تُحل إلا عبر توجه حكومي لتوفير محفزات لإقامة مصانع منتجة بدلاً من شركات مستهلكة.
العلم تراكمي
واحدة من أهم المشكلات، من وجهة نظري، هي مشكلة الباحثين الصغار الذين أرى منهم مَن لا يدرك أساسيات البحث العلمي، ولا معنى التعاون وتبادل الأفكار بحرية وعلنية مع الغير، ويكتفون بنظرة ضيقة جدًّا حول ما يجب أن يقوموا به من عمل. وللأسف لا يجد هؤلاء في كثير من الأحيان توجيهًا مناسبًا أو دعمًا معنويًّا أو ماديًّا ممن هم أكثر خبرة، هؤلاء من المفترض أن يقودوا الاتجاهات البحثية القادمة في المستقبل القريب، ونشأتهم بهذا الضعف مؤشر على تدهور أكبر قادم.
مشكلة أخرى من المشكلات الكبرى أيضًا، هي الافتقار إلى الوعي العام، بمعنى الوعي بالبحث العلمي وأهمية القائمين عليه، فمثلا: تجد الكثير يقول إن علماء مثل زويل أو مصطفى السيد لم يفعلوا الكثير ويتحدثون كثيرًا، أما عالِم مثل الدكتور مجدي يعقوب فهو مَن خدم البلد، وهذا كلام ساذج يدل على عدم دراية بمعنى البحث العلمي، لأن الطبيب من الطبيعي جدًّا أن تظهر نتائج عمله -وربما علمه- سريعًا، لأنه يتعامل مباشرة مع مرضى ربما يتم شفاؤهم، أما بحثه العلمي لإيجاد العلاج فيأخذ الكثير من الوقت. والعالِم الذي يعمل في معمله لا تظهر نتيجة عمله إلا بعد العديد من السنين، وربما لا تظهر في حياته، لأن العلم تراكمي، بحوثه يكمل بعضها بعضًا.
نعلم جميعًا أن "الترانزستور" الذي يُستخدم الآن في كل الأجهزة الكهربائية تقريبًا هو نتاج أكثر من 50 عامًا من البحث في مجال أشباه الموصلات، واشترك في التوصل إليه وتطويره مئات العلماء، بعضهم معروف وبعضهم غير معروف بالمرة.
كما أن من ظواهر عدم الوعي المجتمعي، المبالغة الشديدة في رد الفعل تجاه الأشياء والمواقف، فإما الرفض التام (كما يحدث الآن للأسف في حالة الدكتور زويل)، أو المبالغة في الإطراء لدرجة التحدث عما هو غير موجود، قرأت أحدهم يقول إن جامعة زويل قد خرجت علماء كذا و كذا، بينما أول دفعة من الجامعة سوف تتخرج العام القادم!
التواصل مع الجمهور
مشكلة أخرى (وهذه ليست في مصر فقط، بل تجري دراستها في أكثر الدول تقدمًا أيضًا)، وهي عدم قدرة مَن يعملون في البحث العلمي على التواصل مع الجمهور، وشرح ما يعملون عليه بطريقة بسيطة، وهنا يجب أن يأتي دور الناشرين العلميين في المجلات العلمية المتخصصة، إذ يجب أن يصدروا نشرات باللغة العربية تبسط نتائج البحث وأهميته المستقبلية.
يؤدي هذا المناخ العام الذي يفتقر للوعي بمعنى البحث وضعف وسائل شرحه إلى الإحباط وعدم التشجيع على تقويته. هناك بالطبع مشكلات فرعية كثيرة، لكن جميعها يمكن أن تُحل تلقائيًّا إذا ما تم التركيز على تلك القضايا الرئيسة.
وفي إطار ما نقوم به من تحديد للمشكلات واستعراض للحلول، يصبح من الضروري أن ندرك أننا إذا بدأنا في وضع أسس للحل فإن الأمر لن يكون سهلاً، وسيأخذ الكثير من الوقت ولن يحدث من غير الاستغناء عن بعض العقول القديمة التي أصبحت غير قادرة على تبني ما هو جديد والبدء في تغييرات جذرية إيجابية.
والدليل على هذا ما حدث في بعض البلدان الآسيوية التي يظن البعض أنها تقدمت علميًّا بسرعة لتنافس أمريكا أو المملكة المتحدة أو ألمانيا، وهذا غير صحيح رغم ما حققوه من تقدم نسبي، فتلك البلدان نجحت بالفعل اقتصاديًّا أولًا ثم بدأت في تكوين تلك القاعدة العلمية. وما زالت هذه الدول في طور التقدم؛ لأن هذا يحتاج إلى العديد من السنين، وهذا يظهر بسهولة في الاختلاف بين ما يصدر من أبحاث من دول كأمريكا أو بريطانيا أو ألمانيا، وما يصدر من ماليزيا مثلاً.
حكومة كوريا الجنوبية دعمت شركة كبيرة مثل "سامسونج"،
فنجحت في إنتاج بحوث تطبيقية في مجال الإلكترونيات، ثم بدأت في غزو مجالات أخرى، لكنها ما زالت في طور التقدم. وهذا مثال رائع على كيفية دعم الحكومات لشركات صناعية خاصة تسهم في النهاية في وضع الأسس المطلوبة في مجالات معينة كالبحث العلمي في تلك الحالة.
وحتى نجمع شتات الباحثين والمعامل ونستفيد بتجارب الآخرين في مناهج دعم مجال مهم كهذا، أزعم أن البحث العلمي في مصر تتم تأديته "كهواية" يمارسها محترفون!
0 تعليقات